خيط الحريـــر
بقلم: أسامة أنور عكاشة
يقول العلم: إن خيطا من الفولاذ أضعف في قوته ومتانته من خيط الحرير المكافئ له في السمك والطول, وقد ثبت ذلك بالتجربة المعملية, ولاشك أن هذا القول الذي يرقي الي مرتبة الحقيقة العلمية الثابتة يبدو مدهشا وباعثا علي الحيرة, وقد يرفض البعض تصديقه لما وقر في النفوس من اعتبار الحديد( الفولاذ) هو أقوي الجمادات كلها, حتي أننا نطلق عليه في احدي تسمياته كلمة الصلب, ونقيس إليها صفات المتانة والقوة فنميز بين الأشياء بمدي صلابتها ونقول أحيانا في وصف قوة الإرادة الإنسانية لدي شخص ما بأنها( أصلب من الحديد), إذن كيف لنا أن نصدق بسهولة أن خيط الحرير أقوي من مثيله المصنوع من الحديد؟ لكنه العلم ياعزيزتي.. العلم وأنت..
نعم أنت! وأتحدث هنا عن كيانك المرهف الذي يوحي بالضعف ويجعل من ضعفك مصدرا لجاذبية لا تقاوم.. فالمرأة في أضعف حالاتها هي المرأة في أقوي نقاط جاذبيتها أو هكذا تظن, لذا قالوا إن أشرس أسلحة حواء هي الدموع وليس كالدموع مظهر من مظاهر الضعف, وحين تعجز أي فتاة أو امرأة عن التأثير في عواطف رجلها أو حين تلمس منه رفضا لما تطلبه منه أو إعراضا عن الاستجابة لمحاولات الدلال والدلع فإنها تلجأ فورا الي ترسانة الدموع لتخرج منها أمضي مؤثراتها وهي دائما تظاهرها بالضعف ماثلا في الدموع تتقاطر علي الخد ليسرع إليها المنديل يجفف ويرقأ.. ويقنع! وحين رأيتك لأول مرة لم تكن هناك دموع..
كانت هناك تلك النظرات المبتسمة والمفعمة بالحنان وهو بدوره يماثل الدموع في التعبير عن الضعف, فللرجل.. ذلك التناقض بين وجدانه وظاهره.. يبدو خشنا صلبا وفي بعض الظروف يبدي قسوة منفرة قد تخيف من تحاول الاقتراب منه أو التودد إليه, وهذا نفسه هو خيط الحديد الذي يصارع خيط الحرير عند المرأة ومنذ اللحظة الأولي في أول لقاء ينشب ذلك الصراع ونلاحظ أن نمو العلاقة يسير في خطوات متدرجة ولكنها متناقضة لدي الطرفين.
تبدي المرأة أولا أضعف أسلحتها وهو التظاهر بالمنعة والصمود الذي يمكن أن يتحول في لحظة الي قناع البرود واللامبالاة وفي نفس المرحلة يبدي الرجل أضعف أسلحته وهو التظاهر بالرقة والود واللطف في المعاملة متخيلا أن ذلك هو أسرع الطرق الي غزو القلعة دون أن يدرك الحقيقة وهي أنه ينفذ بدقة خطوات رد الفعل الذي بادرته به المرأة ثم يحين وقت المرحلة التالية حين يبدأ كلاهما في تغيير مسار الاقتراب, وفي اللحظة التي يوقن فيها الرجل أن القلعة ماضية في اغلاق أبوابها ورفع الجسور التي تمتد من تلك الأبواب الي ضفة الخندق المحيط في الجهة الأخري, يحدث أحد أمرين إما أن ييأس صاحبنا ويدير لجامه ليعود أدراجه من حيث جاء
أو تنتابه حمي العناد فيظل مكانه يخطر بفرسه أمامها نهارا وتحت الشمس مبديا كل مهاراته في الفروسية ويأتي عليه الليل ليوسط لديها القمر عبر أشعاره ومناجاته, وفي كلتا الحالتين تخطو صاحبتنا خطوتها التالية وهي التخفيف من قناع الضعف وإبداء جانب من القوة يتيح لها أن تصبح في موقف السيطرة وإبقاء كل الخيوط في يدها تفصل بارادتها بين خيوط الحرير وخيوط الحديد, فترمي بهذا حين تريد وتسحب ذلك كلما شاءت.
قد يعترض أحدهم علي هذا المنطق قائلا إنها مواقف مؤقتة في ظروف استثنائية, أي أنها طارئة في عصر له ثقافة خاصة ومجتمع دون تعميم علي باقي المجتمعات والا فماذا تقول عن عصر سي السيد والست أمينة؟ وبالعكس ماذا تقول عن بعض المجتمعات البدائية الموجودة في عالم اليوم في بعض بقاع إفريقيا وجزر البولونيز وسكان نيوزيلندا وجنوب استراليا( قبائل الماوري) وفي بعض أنحاء ايران الغربية( بورينو) حيث يشيع نظام المجتمعات الأموية حيث تحكم فيها الأم التي تتزوج من عدة رجال( تعدد الأزواج)(Mongamy) ويكون الرجال هنا بمثابة عمال يخدمون الأسرة فقط لا غير.
أضحك ساخرا ممن يبدي هذا الاعتراض وأقول ياعزيزتي انني لست بصدد دراسة أنثروبولوجية للمجتمعات البدائية, بل أتحدث عن انسان هذا العالم المتحضر ولو كان علي أدني درج تحضر كعالمنا نحن أبناء مجتمعات الوسط( العالم الثالث), حيث أعيش وتعيشين نعاني فقط من تعثر لغة الاتصال وسبل التواصل.
أري سمات الضعف الرقيق في لفتاتك وايماءاتك وأحيانا في نبراتك خلال اتصال هاتفي فأشعر أنك تكبلينني بخيوط من حرير أنزع أمامها سلاحي وأرفع كل الرايات البيض وأتخلي عن كل خيوطي الحديدية.. في الواقع أنا حيالك لا أمتلك أي نوع من خيوط الحديد فبمجرد أن ترنو الي عيناك تتدفق منهما خيوط الحرير كأمواه غدير تزغرد في الجنة أو كدفقات الجداول تنساب بخريرها الموسيقي في دروب البساتين المزهرة, وأشعر بأنك مجرد طفلة تبحث عن حنان الأب وأنني ذلك الأب وعلي الفور تتحول كل خيوطي الحديدية التي أودعتها إياي طبيعتي كرجل الي غلالات من الديباج والمخمل أحيط بها كياني الطفل..
أدفئه وأحتويه وأتوحد معه, هكذا يغلب ضعفك قوتي ويغرق حنانك الفياض كل نوازع العنف والخشونة التي تريد الطبيعة ـ وقد فعلت ـ أن تغرسها في أعماق الإنسان ـ الرجل ـ ويبقي سؤال: من أقوي إذن الخيط الحديدي في يد الرجل أم خيط الحرير بين أنامل المرأة... هذا سؤالي فهل تجيبون ؟